طالما كان للمكان أهمية في إبراز البعد الفني لأي رواية، وكثير من الأماكن على مر التاريخ اشتهرت بسبب الروايات والقصص وأصبحت مزارا له أهميته السياحية والاقتصادية.فهل سيصبح قمة السويح ووادي قعبت ووادي ياء ووادي خويلص ووادي خب الغافة من الأماكن التي ستدفع فضول قراء رواية «القناص» إلى زيارتها؟.
«كانت شجرة ظفر تقف أسفل المدخل تحيط بها نباتات القضب ذات الزهور اللؤلؤية الصفر، بعيدانها الخضر الدقيقة التي تتشعب ممتدة مثل سهام خارجة من كنانة قناص قديم.»
من الصفحة الأولى يأخذنا زهران القاسمي في روايته الثانية «القناص» إلى حكاية جديدة يسيطر فيها المكان بحضوره القوي كاشفا عن تفاصيل دقيقة لتضاريس المنطقة وجبالها ووديانها وممراتها، ذاكرا اسم كل طريق وجل وواد، واصفا جمال المكان وسحره بالرغم من صعوبة الحركة فيه ومشقة التنقل والعيش فيه.لم يكن زهران القاسمي ليستعرض هذه التفاصيل إلا ليضعنا في لب حكاية لا تحدث في أي مكان، إنما في مكان يليق بالقناص والطريدة وبتاريخ عميق من المطاردة. تلك التي سنحت للقناص أن يكون خبيرا عارفا بالبيئة التي تعيش فيها طريدته، التي بالتالي تعرف جيدا كيف تهرب وأين.تلك الأماكن وإن بدت بعيدة وغريبة إلا أنها ما زالت موجودة لكننا نسيناها ونسينا جغرافية الكثير من المناطق الساحرة بحثا عن الأسهل والأقرب. أماكن كانت مأهولة برعاة وحطابين وقناصين، وقبائل وبشر سكنوها وعمروها وصنعوا فيها تاريخا وذكريات. ولأن الكاتب بلا شك يستحضرها لأهميتها التاريخية والجغرافية، توضح لنا الرواية أيضا العادات والتقاليد وأسلوب العيش وطبيعة الحياة في المناطق الجبلية المرتفعة،وخبرة سكان الجبال بدورة حياة الحيوانات والنباتات وصفاتها. أي أن الكاتب بنى حكايته في بيئة متكاملة تسودها علاقة قوية، هي العلاقة الحقيقية بين الإنسان والمكان، علاقة متأصلة لا تنتهي بالوجود الجسدي فقط، وإنما هي علاقة تماهي وحب يسري في العروق.
في هذه الرواية يكشف «زهران القاسمي» عن خبرته العميقة بالجبال والوديان التي ارتادها بطل حكايته وأصبحت جزءا منه، فهو يصفها بأسمائها وطرقها ونباتاتها وحيواناتها، فليس سهلا أن تتبنى أمرا لست عارفا بتفاصيله، لذلك فمن الأمور الملفتة والمميزة جدا في رواية «القناص»: الأسماء الغريبة للأشجار والنباتات والوديان والجبال والحيوانات والطيور مثل شجرة الظفر والعسبق والمحميرة وأشجار الأثل والشوع والنخيل، وطائر أبو صريد والبلابل والنسور وطائر المنعيم وحيوانات الجبل مثل الثعالب والحمير والوعول طبعا. وهي من الواضح أنها تمثل علاقة الكاتب الوطيدة بالمكان، كما أنها تمثل مرجعا بيئيا هاما ودليلا واسعا لمن أراد استقصاء تلك المناطق وعناصرها.
حكاية القناص هي حكاية حب يمكن أن تحكيها الجدات للصغار بهدف دفعهم إلى حب المغامرة والإرادة والتمسك بالحلم، هي حكاية حب متوارث، وعشق أزلي للمطاردة، يعيشه الرجال الأقوياء فقط الذين لا يغلبهم شيء.الرجال الذين يقضون جلّ حياتهم وراء هدف واحد « أنت أو أنا». قصة هذا القناص الذي اعتزل الحياة والناس يفكر ليل نهار في وعل نشأت بينهما قصة حب من بعيد.يتبادلان النظرات من مسافات هائلة يتحديان بعضهما البعض. هذا القناص يحب وعلا فشل سنوات طويلة في اصطياده، ذلك الحب كان يكبر في قلبه، ولم يتراجع عن لقائه بالرغم من التهديدات وتقدمه في العمر والأهم القرار الحكومي الذي صدر فيما بعد بمنع صيد الوعول لأنها ثروة وطنية على وشك الإنقراض. لكنه لم يأبه وبقي حبا يسكنه وكل ما حوله يزيد ذلك الحب ألقا.
اللعبة التي يلعبها القناص مع الوعل لعبة قديمة تلعبها كل الكائنات، لا تتغير الأدوار فيها مهما مر الزمن وإن تغير المطارد والطريد. والقناص يعلم أن هذه اللعبة لن تنتهي إلا بموت أحدهما، فهذا الحب قاتل وهذه اللعبة الأزلية مستمرة لأنها لعبة انتظار لحظة لقاء قد تدوم للأبد.كان الوعل يلعب دوره بنجاح أيضا، هو من كان يغذي القناص بالصمود. كان يظهر حين يشاء ويختفي حين يشاء، يخطط لاستفزاز قناصه واثقا من نفسه خاصة حين يتراءى له من البعيد بكل جبروت.
يتحداه، يوقعه في شركه ثم يهرب، تلك الجبال القائمة أمامه أيضا تفتح له ذراعيها انتظارا، ذكرياته مع أبيه وبطولته تتراقص في رأسه، سنواته الأولى في المطاردة، كل ذلك كان يدفعه دفعا لمواصلة حلمه في البحث عن تيس الوعل، فانطلق مع سنين عمره الكثيرة حاملا سكتونه وحقيبة ظهره وأشياء كثيرة وجد نفسه فيها لكنها ليست له ولم يستطع التعايش معها، وهو الذي قضى حياته كلها انتظارا للوعل الذي يمثل حلمه وحلم أبيه وعمه: الوعل البعيد الذي لا تكتمل حياة أي قناص إلا باصطياده.ما الذي كان يريد أن يثبته؟
لم يستطع الصمود حتى صمم على المطاردة من جديد والبدء فيما أنهاه والده. حطم القواعد والقوانين وترك قريته وصعد الجبال حاملا معه عمره وحقيبته، وبعد عناء وجد ضالته واصطاده، لكن المفاجأة أن ذلك لم يفرحه لأنه وجد بداخله فراغا هائلا، ووجد نفسه وحيدا دون حب ودون حلم. بقي صامتا متسائلا: ماذا الآن؟ ماذا بعد أن امتلك الطريدة؟ أي حلم سيقتفي الآن وهو على مشارف الستين من عمره؟. هل انتهى كل شيء؟
حين حقق حلمه اكتشف وهم المطاردة.فما الذي يحدث فينا حين نتعلق بحلم بعيد جدا ونفني عمرنا وراءه، حلم يقض مضاجعنا ويبعدنا عن الحياة الاجتماعية ويدخلنا في متاهات المطاردة والإصرار والتشبث والمراقبة حتى تأتي اللحظة الأخيرة. لحظة ملاقاة الطريدة، لحظة انكشاف الأشياء، اللحظة التي تلمس فيها حلمك. ماذا يحدث حينذاك؟هنا يقفز إلى رأسي سؤالا: هل كلما حصدنا حلما انتهينا؟.
تطرق الكاتب في روايته إلى الحياة القروية وشظف العيش والخلافات العائلية والضغائن والأحقاد العلاقات الإجتماعية التي قد تكون وراء تكوين شخصية القناص ونفوره وعزلته.كما كان للخرافات والأساطير نصيب في هذه الرواية تتسلل إلى القاريء شارحة فكرة أو معللة حدث ما. كخرافة عدم السباحة في العين التي تسحب من يسبح فيها إلى نهري دجلة والفرات وتطفو جثته هناك، والنذر عليها من الأمراض. كما بدا الكاتب عارفا بسلسلة حياة الوعل وطبيعة حركته ووقت ظهوره وموعد تناسله وكل ما يخص به، وهذه ميزة رفعت من قيمة المحتوى العلمي للكتاب.
بالنسبة لآلية الكتابة التي اتبعها الكاتب في رواية القناص فهي آلية سينمائية محبوكة بشكل ممتع يناسب طبيعة الرواية ويبدو أن زهران راوي حكايات من الطراز الأول وأن رأسه مليء بقصص قديمة تنتظره أن ينبشها.لذلك نجح الكاتب في وصف عملية البحث والترقب كما برع في استحضار الوعل بصفته شخصية رئيسية وأعطاه دوره حتى لتحس بذكائه وقوته ومخاتلته للقناصين.كما وصف حركة القناصين من واد إلى آخر ومن جبل إلى آخر بشكل دقيق ومثير حتى لتشعر أنه كان معهم يكتب عنهم ومنهم ويصف بأم عينيه تلك الطرقات والمنحدرات.
بالنسبة للغة فهي بسيطة أدخل في حواراتها اللهجة المحلية حتى يكتمل المشهد. وبالرغم أنه لم يكن ضروريا لقلة الحوار بالرواية، إلا أنه لم يصبها بخلل بل أن بعض الحوارات أضفت نكهة على الأحداث.
تطرق زهران القاسمي في هذه الرواية إلى فكرة جديدة تحدث في أماكن لم نعد نسمع عنها وعن موضوع محرم قانونيا ومنسيّ اجتماعيا، ومع هذا قد لا تحتمل الرواية أكثر مما هي عليه، وليست بحاجة لتهويمات وتفسيرات وجودية بل أنها بسيطة ببساطتها، تعيد القارئ إلى حياة السابقين، إلى المغامرة، إلى حياة الكد التي تصنع الأحلام وإلى الخرافات والأساطير.هذا الكتاب يسافر بالقارئ إلى زمن قديم هائل مر، وبقيت أماكنه حاضرة ثم يبعث فينا رغبة السفر لسماع الحكايات، وقد يفتح في قلوب آخرين روح المغامرة.
لن نحكي قصة القناص هنا، لكن بالتأكيد أحثكم على قراءتها كي لا يفوتكم ذلك الزخم الهائل من الحكايات القابعة خلف الجبال.
أزهار أحمد\
\ كاتبة من عُمان