رضا عطية
ناقد مصري
شغلت نوال السعداوي (1931-2021) مساحات كبيرة من التلقي وأثارت موجات ممتدة من الجدل لما حملته كتاباتها من أفكار مغايرة للسائد وآراء جسورة في نقد المجتمع وحس متمرِّد في النظر إلى حقوق المرأة. تعددت السعداوي في أنواع ومجالات كتاباتها ما بين الكتابات النثرية الفكرية التي تحمل همًا رؤيويًّا ينشغل بقضايا العدالة المجتمعية وقضايا المرأة والدعوة المساواتية، وكذلك الكتابة الإبداعية المتوزعة بين الرواية والقصة والمسرح.امتد سرد نوال السعداوي على مستوى أفقي في تمثيله لفئات ومستويات مجتمعية وثقافية متعددة وبيئات مختلفة بين الريف والحضر والمدينة وعلى مستوى رأسي تاريخي ممتد لحقب مختلفة من تاريخ مصر. فيقدِّم سرد السعداوي تشريحًا رؤيويًّا للمجتمع.
بناءُ الشخصيَّات
اتسم سرد نوال السعداوي الإبداعي بطبيعة خاصة تتبدى في الأبعاد النفسية المحمَّلة بها شخصيات حكاياتها فتبدو شخصيات نوال السعداوي كنماذج تمثيلية دالة على أوضاع وشرائح اجتماعية، فتبدو مثل هذه الشخصيات كأيقونات رمزية ممثلة لتيارات اجتماعية واتجاهات فكرية ينشب بينها حالات من الجدل والصراع وقد تكون رمزًا لأفكار أو أحلام يوتوبية.
ومما تستعمله السعداوي في بناء الشخصية آلية التسمية، فأسماء الشخصيات في روايات وقصص السعداوي محمَّلة بكثير من الدلالات ومشبَعة برمزية تتجاوز حضورها الفردي في الحكاية. في رواية جنات وإبليس، تبدو الشخصيتان الرئيستان جنات وإبليس تمثيلًا لحدين أو قطبين متقابلين، وإذا كان «إبليس» هو لقب أُطلق على أحد الأشياء في الرواية، كنموذج لشخصية متمردة وسط جماعة من عمال التراحيل الذين يبدون مسلوبي الإرادة، فإنَّ شخصية «جنات»، تبدو نموذجًا للفتاة المختلفة عن قريناتها من العاملات والفلاحات المستسلمات للقهر، فيخبرنا الصوت السارد في الرواية عن شخصية «جنات»:
كلما كانت تكبر يتغيَّر وصف الرجال لعينيها. بعضهم رأى فيهما الحزن الدفين منذ حواء الآثمة. وبعضهم رأى فيهما براءة وفرحًا لا تسعهما الدنيا، أو طهارة العذراء مريم. وبعضهم رأى فيهما قوة تجذب، والآخرون رأوا فيهما قوة تطرد. وهناك من رآهما مفتوحتين بلا نهاية على الأفق. وغيرهم رأوهما مسدودتين غير قابلتين للاختراق. (جنات وإبليس، مكتبة مدبولي طبعة 2، 2006، ص 26).
أحيانًا ما تذهب الصياغة السردية لدى نوال السعداوي في بلورة الشخصيات ووصفها حد أسطرة بعض شخصيات الحكاية، فتبدو شخصية مثل «جنات» لغزًا محيرًا لمن يتفاعلون معها ومربكًا جدًا لهم في تمثُّل ماهيتها والتعبير عنها حد وسمها بأوصاف شديدة التناقض، فيبدو (الحزن والإثم) في مقابل (الفرح والبراءة) كما تبدو (حواء) التي هي رمز للسقوط في فخ الخداع الشيطاني في مقابل (العذراء مريم) التي هي رمز الطهارة، كذلك تتبدى فيها قوة جذب في مقابل قوة طرد لدى البعض الآخر، وأيضًا انفتاح على الأفق في مقابل انسداد واستغلاق، فتصنع هذه التقابلات تكوينًا ديالكتيكيًّا وتشكيلًا دراميًّا للشخصية، يجعلها تتعالى على نمط الشخصيات المألوفة، فيحضر في سرد السعداوي تيمة الشخصية المختلفة والاستثنائية التي تحمل بطولة إشكالية في مقابل المجموع المتشابه والمتماثل.
ومما يبرز في تشكيل السعداوي لشخصيات حكاياتها حضور الجماعة في مقابل الفرد، كما في رواية جنات وإبليس:
الرجال منهم في مكانهم المعتاد. جلابيبهم واسعة بيضاء علامة المرض. حزام رفيع مربوط حول الوسط له دلالة معينة في السجلات الرسمية، ضمن الأمراض المعدية كالدرن والجذام، وما إن ينظر الواحد في عيني الآخر حتى تنتقل إليه العدوى. يحملقون في الفراغ بعيون نصف مفتوحة، يملؤها إدراك كامل بالموت. تطفو فوق دمعة حبيسة لا تجف ولا تسقط، رؤوسهم حليقة «نمرة واحد» بأمر المدير. وجوههم يغطيها شعر ذابل يتدلَّى فوق صدورهم. لا أحد يعرف أعمارهم بالضبط. إلا رجل واحد يسمُّونه إبليس، يبدو في عمر الشباب، حليق الوجه.، بلا شارب ولا لحية، شعر رأسه متمرِّد على القانون، غير محلوق، خصلة قصيرة أمامية يطيِّرها الهواء، تسقط فوق جبهته السمراء، يرفعها بأصابع رفيعة، تظهر عيناه في الضوء سوداوين يكسوهما بريق خاطف شبه مجنون، من تحته دمعة مليئة بالحزن، (جنات وإبليس، ص ص 5-6).
تتبدى عناية سرد نوال السعداوي في تقديم الشخصيات بالتفاصيل الدقيقة مع الإبراز المدقِّق لملامح الشخصيات وحركاتها حتى البسيطة منها لما له من دلالات في صياغة هوية هذه الشخصيات، لكن من اللافت أيضًا في سرد السعداوي حضور الجماعات التي تبدو متماثلة الأفراد، كما هنا، في تمثيل عمال التراحيل، وكأنَّ ثمة استنساخًا، على نحو ما، لأفراد الجماعة، يجعلهم متماثلين، في إبراز لغياب الإرادة الفردية لهذه الجماعة وخضوع أفرادها لإملاءات قهرية، كذلك في مقابل الجماعة المتماثلة يبدو حضور الفرد المختلف والمتمرِّد كما في شخصية «إبليس» الذي يبدو كذلك متناقضًا بين مظهره الحاد والشرس وما يضمره تحت هذا المظهر من حزن، فيبرز سرد السعداوي تناقضات الشخصيات من ناحية، وتناقضات الفرد في مقابل الجماعة من ناحية أخرى.
ومما يعتمد عليه سرد نوال السعداوي في بناء الشخصيات تمثيلات اللاوعي وتبديات الأغوار النفسية العميقة، كما في قصة «الخيط»:
لم أكن أعرف لماذا أخاف أن يموت أبي، كنت لا أعرف الطريق إلى المدرسة، وكان هو الذي يشتري لي الطعام والملابس، وهو يجلس إلى جواري في السرير ويحكي لي القصص حتى أنام. وكنت أنسى أحلامي كلها في الصباح إلا حلمًا واحدًا كان يظل في ذاكرتي. ذلك الحلم الذي يتحرك فيه القطار قبل أن أضع قدمي على السلم فيحملني أبي بين ذراعيه ويضعني في القطار ثم يقفز خلفي لكنَّ قدمه لا تصل إلى السلم فيدوس على الهواء ويسقط بين العجلات، وأهب من النوم مبللة بالعرق، وحينما يصل إلى أذني شخير أبي من الحجرة المجاورة أتمتم بآيات الحمد لأنّه لم يكن إلا حلمًا وأنام مرة أخرى. (الخيط وعين الحياة، مكتبة مدبولي طبعة 3، 1983، ص ص 13- 14).
تبرز الصياغة السردية عبر تشكيل نفسي يجلي أكناه اللاوعي، علاقة الطفلة بأبيها، في ظل ارتباط يتجاوز مفهوم عقدة «ألكترا» بين البنت وأبيها الذي يمثِّل لها حضن الأمان الوجودي. وإذا كانت الأحلام هي بوابة اللاشعور في إخراج مكبوتات الذات ومخاوفها إلى جانب رغباتها التي قد تتنافى مع العرف المجتمعي والنسق الأخلاقي المقرر، فإنَّ عمل الحلم هو ترجمة مختزنات اللاوعي وأفكاره وهواجسه في تكوين قصصي وصياغة مشهدية، حيث يعمل الحلم على التمثيل الإحالي لمشاعر اللاوعي، كما في تمثيل الحلم لرهاب الموت، ومخافة فقدان الأب بحكاية القطار. وإذا كان الحلم كتجلٍّ لفاعلية اللاوعي يستعمل أشياء الواقع وعناصره كرموز دالة على أفكار ومشاعر ومعان، فإنَّ الحلم كدال وعناصره كدوال تتجاوز مدلولاتها المألوفة في عالم الواقع لتحيل إلى مدولات أخرى في مرواغة إحالية، فالقطار قد يرمز إلى الرحيل والانتقال من مكان مألوف، موطن الذات، إلى المجهول والغريب والمخيف أيضًا، وهو رمز أيضًا للبحث القلق عن مستقر آمن، أما سقوط الأب من على سلم القطار وموته بعد تأمينه وضع ابنته في عربة القطار فيرمز إلى عطاءات الأب وإيثاره مصلحة الابنة وتأمين حياتها قبل تأمينه لحياته الشخصية، وكأن سقوط الأب في الحلم هو تجسيد لشعور الابنة في لا وعيها بقسوة الحياة وظلمها وتربص الفناء بالذات الإنسانية، ممثلة في الأب.
علاقةُ الذَّات بالعالَم
من التيمات الحاضرة في سرد نوال السعداوي علاقة الذات بالعالم، التي تبدو، في الأغلب، كإشكالية وجودية، حيث تتمثَّل الذات موقعها في العالم وموقف هذا العالم منها، وصراعاتها فيه إثباتًا لوجودها، بل باتت علاقة الذات بالعالم تساؤلًا وهاجسًا ملحًا على الوعي في تبصُّر الذات لكينونتها وهويتها الوجودية.
في رواية الغائب تقدِّم السعداوي بطلة حكايتها، فؤادة خليل، كنموذج للفتاة المتعلمة، التي تبحث عن تحقيق ذاتها في العالم وتعاني في الآن نفسه غيابًا مفاجئًا لحبيبها، «فريد»:
واحدة من الملايين، جسم من الأجسام البشرية التي تزحم الشوارع والمواصلات والمساكن، من هي؟… فؤادة خليل سالم، أنثى، من مواليد الصعيد، ورقم البطاقة 3125098 مركز شباط، ماذا يمكن أن يحدث للعالم لو أنَّها سقطت تحت عجلات الأتوبيس؟… لن يحدث شيء، ستظل الحياة كما هي تجري لاهثة غير عابئة ولا مبالية، ربما تكتب أمها نعيها في صفحة الوفيات، ولكن ماذا يفعل سطر في جريدة؟ ماذا يغيّر في العالم..؟ ودارت عيناها حولها في دهشة، ولكن لِمَ الدهشة؟…. إنَّها واحدة من ملايين فعلًا، وهي جسم من الأجسام المحشورة في الأتوبيس فعلًا، وهي لو سقطت تحت العجلات وماتت فلن يغيِّر موتها شيئًا… ما وجه العجب في هذا؟، لكنَّها كانت لا تزال تحس أنَّه عجيب، أنَّه شيء يثير دهشتها، شيء لا يمكن أن تصدقه أو تقبله. فهي ليست واحدة من ملايين، إنَّ في أعماقها شيئًا يؤكِّد لها أنَّها ليست واحدة من ملايين، أنَّها ليست كتلة بشرية تتحرك، أنَّها لا يمكن أن تعيش أو تموت فلا يحدث للعالم أي تغيير، نعم، في أعماقها شيء يؤكِّد ذلك، ليس في أعماقها وحدها، وإنَّما في أعماق أمها أيضًا، وفي أعماق مدرِّسة الكمياء وفي أعماق فريد. وزحف في رأسها صوت أمها تقول: ستكونين شيئًا عظيمًا مثل مدام كوري، وتبعه صوت مدرِّسة الكمياء يقول: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل، وهمس صوت فريد في أذنها: فيكِ شيء لا يوجد عند الأخريات. ولكن ما قيمة كل هذه الأصوات المنتهية، لقد دوَّت مرة أو مرات وأحدثت ذبذبات في الهواء ثم انتهت. (الغائب، مكتبة مدبولي، د ت، ص ص 24- 25).
يعمل سرد السعداوي، كما في هذا المقطع، على تجسيد ذبذبات الذات النفسية وترسيم نبضاتها الشعورية في تمثلاتها لعلاقتها بالعالم ومكانها فيه، إبرازًا لتردداتها بين الشعور بالضآلة واللاقيمة في هذا العالم، وعدم تجاوزها الوجود البيولوجي، مجرد جسم من ملايين الأجسام البشرية، وانعدام تأثيرها في العالم، والشعور المُقاوِم الذي تستعيده الذات من ذاكراتها بأنَّها يمكنها أن تحقق شأنًا عظيمًا وتستطيع تغيير العالم، ثم الرجوع إلى نقطة الإحباط الأولى بأنَّ تلك الأصوات التي أعلنت لها اختلافها عن الآخرين قد توارت وتلاشت وانتهت. فالذات تخوض صراعًا وجوديًّا من أجل كينونتها في هذا العالم.
وتأتي البنية اللغوية للنص السردي عند السعداوي، عبر صوت السارد، الذي يبدو كلي المعرفة، بتشكيل له إيقاعاته الممثلة في تكرارات بعض الجمل وكذلك التناوب بين التساؤلات والأجوبة، فقد يأتي التساؤل والاستفهام متتابعًا تعبيرًا عن حيرة الذات ودهشتها، فتتوزع التساؤلات بين سؤال عن الكينونة: (من هي؟…)، مجموعة تسفر عن شعور بالعجز واللاجدوى: (ماذا يمكن…؟/ ماذا يفعل…؟/ ماذا يغيّر…؟) في تعبير عن فقدان القدرة على التغيير أو حتى الفعل، وكأنَّ هذه التساؤلات حول إمكانية الفعل بمثابة رد ضمني على التساؤل الأول حول الكينونة. ومجموعة أخرى حول الدهشة: (لِمَ الدهشة؟/ ما وجه العجب…؟) تاكيدًا على الاستسلام ولو كان مؤقتًا لشعور الذات بالضآلة والهامشية واللاجدوى. أما الأجوبة على بعض تلك التساؤلات التي تثبت ما تطرحها أحيانًا وتنفيه أحيانًا أخرى، تعبيرًا عن تردد الذات ومقاومتها العنيفة لبعض الأفكار الانهزامية، فثمة نوع من «العدول» بالمراوحة بين الإثبات والنفي لنفس الفكرة، وهو ما يضفي على لغة النص السردي لدى نوال السعداوي سمتًا شعريًّا.
تمثيل وعي الجماعة
في سرد نوال السعداوي تتبدى عناية واضحة في عدد من نصوصها الروائية والقصصية بتمثيل وعي الجماعة، في معتقداتها ورؤاها الكلية للعالم، وخصوصًا تلك الجماعة الريفية أو الشعبية البدائية في وعيها إزاء قضايا الوجود كالحياة والموت، مثلما يتبدى ذلك في موقف الجدة، جدة نرجس في رواية جنات وإبليس في مواجهة الموت:
ويدق الجرس ويخلو الفصل إلَّا هي، تظلُّ واقفة منتصبة لا تسقط منها ذراع وهي واقفة لا تسقط، وفي الحلم تظل واقفة لا تسقط، مهما انهالت فوقها العصا لا تسقط، تموت وهي واقفة لا تسقط، كجدتها الريفية أمّ أبيها، كانت تراها واقفة، وتسألها:
-واقفة ليه يا ستي الحاجة؟
-عشان عزرائيل لما ييجي يلاقيني واقفة.
-عزرائيل مين؟
لم تكن تعرف من هو عزرائيل. تقول جدتها إنّه يأتي في الليل بعد أن ترقد ليخطف روحها من جسمها، فإذا لم ترقد وظلت واقفة ينصرف عنها ويذهب إلى امرأة أخرى.
«امرأة أخرى»؟!
دوّت الكلمتان في رأسها كطلقتين من الرصاص، طلقة وراء طلقة، ثم دبَّ الصمت، صمت مطبق لم تسمع فيه إلَّا نباح كلب من بعيد. وبوق سيارة ينطلق مرة واحدة ثم يكفّ، ولا يبقى فوق الجدار إلا دائرة من الضوء الأبيض تزحف فوقه، تمشي فوق الجدار حتى السقف، ثم تهبط إلى الأرض، تمشي فوق البلاط، وتصعد إلى السرير، تمشي كالشعاع فوق وجهها، ثم تثبت على جفونها المغلقة، فتحت عينيها نصف فتحة ورأت المدير واقفًا وبجواره الرئيسة. (جنات وإبليس، ص ص 28-29).
يكشف الخطاب السردي لدى نوال السعداوي عن بنية الوعي الجمعي الريفي الممثَّل في اعتقاد الجدة أن الاستيقاظ وقوفًا ينجي من الموت ويصرف «عزرائيل» عن هدفه نحو هدف آخر، «امرأة أخرى»، في تجل للوعي الشعبي الذي يتأسس على تصورات غيبية تجافي المنطق والمعرفة العلمية.
وكما يتبدى في تشكيل الصياغة السردية لمسار الحكاية فإنَّ ثمة نوعًا من التداعي بالانتقال من موقف إلى موقف آخر مشابه أو مماثل، فوقفة البنت في الفصل تذكِّرها بوقفة جدتها تحاشيًا للموت، ما يوجد إيقاعًا للحكاية المسرودة، عبر هذه الانتقالات، ثم العودة عبر المراوحة المونتاجية إلى وضعية البنت في الفصل من إغلاق جفونها في بيتها الريفي إلى فتح عينيها نصف فتحة في الفصل لتجد المدير وبجواره الرئيسة، فثمة توظيف لتقنيات المونتاج للانتقالات الزمكانية والمزج الحدثي وتداعيات الأفكار في سرد السعداوي.
وتتبدى بعض سمات الشفاهية في كتابة السعداوي السردية ممثلة في تكرارات بعض الكلمات أو الجمل، كما في تكرار (واقفة لا تسقط) لثلاث مرات ومرة رابعة وقد شطر التركيب الحال (منتصبة)، تأكيدًا على معنى الثبات والمداومة عليه. وكذلك تكرار (امرأة أخرى) لمرتين لبيان ترددات الدهشة في نفس الطفلة وكأنَّ الثانية هي صدى الأولى.
عنيت نوال السعداوي في سردها بتمثيل بعض جوانب الغرابة في تكوين الشخصية الجمعية المصرية وخصوصًا لدى الريفيين، كما في رواية جنات وإبليس:
…فتحت عينيها ورأت نفسها واقفة أمام المرآة، خلعت الطرحة من حول رأسها، انسدل شعرها الأسود حول كتفيها، ضفيرتان طويلتان كبنات المدارس، هزت رأسها فاهتزَّت الضفيرتان.
-نرجس؟
رنَّ صوتها في أذنها غريبًا، كلمة نرجس أشد غرابة، اسم امرأة أخرى ربما، ظلها مرسوم فوق الجدار، منتصب إلى جوارها.
-أهي نرجس؟ روح أخرى تتقمص جسدها؟
كانت تؤمِن بوجود الأرواح، الجان ورد ذكره في القرآن، هكذا قال أبوها، جدتها حكت لها عن عفريت جدها يخرج في الليل من القبر، يمشي فوق الأرض بلا قدمين ولا ساقين، ولا أي شيء يمكن أن تراه العين، يتقمَّص جسد القطة أحيانًا، ويرقد أمام باب المرحاض أو «بيت الأدب» كما تسمِّيه جدتها، يخلع جسد القطة ويرتدي جسد فأر صغير أو سحلية، أو يظل كما كان روحًا بلا جسد، ويمكنه أن يدخل من تحت عقب الباب أو شق النافذة. (جنات وإبليس، مكتبة مدبولي طبعة 2، 2006، ص 26).
يكشف السرد عن عادة الريفيين أحيانًا في مناداة الشخصية باسم آخر غير اسمها الأصلي، غير أن ذلك يمتزج في وعي هذه الشخصية بفكرة حلول الأرواح مع تجليات الجان والأشباح، تلك الفكرة وذلك المعتقد القار في وعي الشخصية الجمعية الريفية التي تؤمِن بالقوة الغيبية وتميل إلى تقديم تفسيرات خرافية للعالم، حيث قد تبالغ في الاستناد إلى إشارة ذات مرجعية مقدَّسة كورود الجان في القرآن الكريم لتقوم بما يشبه عملية التعميم، كذلك الاعتقاد بسكنى الأرواح أجساد بعض الحيوانات كالقط والفأر كما في الوعي الشعبي، ويُبرِز الخطاب السردي هنا، دور الجدَّات في توريث هذه المعتقدات للأجيال الناشئة، في إشارة إلى طغيان الإيمان بالخرافة والغيبيّات على العقل النسوي الشعبي، وعمل النساء، لا سيما الجدات والأمهات، على إعادة تدوير الأفكار التي ترتكن إلى قوى غيبية في تفسير ظواهر الوجود.
حضورُ المرأة ونقدُ الوعي النَّسويّ
مما يبرز في سرد نوال السعداوي التركيز على حضور المرأة في المجتمع، حتى في أبسط المواقف العادية، كما في ارتياد «فؤادة»، بطلة رواية الغائب، للحافلة، «الأتوبيس»:
وتنبهت إلى شيء ما مدبب يضغط على كتفها، وكانت قد أحست به ولم تعره اهتمامًا… فلماذا تخص كتفها بهذا الاهتمام؟ ولكنَّها سمعت صوتًا خشنًا حادًا يدخل أذنها كمسمار: التذكرة! وانتشر فوق وجهها رذاذ صغير كبشائر المطر. وفتحت حقيبتها بأصابع مرتجفة، فالرجل ينظر إليها نظرة غريبة، كنظرة شرطي إلى لص محترف، وهو يزمجر بكلمات لم تسمعها كلها، ولكنَّها التقطت منها كلمتي ذمة وضمير. وأحست أنَّ وجهها يسخن، ليس لأنَّها سمعت هاتين الكلمتين، فهما وحدهما هكذا بغير حواشٍ وحروف أخرى لا يعنيان لها شيئًا، لكنَّها رأت العيون كلها من حولها تتجه نحوها، وفي كل عين منها نظرة غريبة، كانَّهم يحسون من أعماقهم أنَّهم متهمون مثلها ويحاولون نفي التهمة عن أنفسهم، ولكنَّهم يعلمون أنَّهم نجوا من العقاب ولم يبق لهم إلا تلك الشماتة الخفيّة فيمن يقع منهم. (الغائب، مكتبة مدبولي، د ت، ص ص 24- 25).
يقوم سرد نوال السعداوي على تشعير المواقف العادية، بخلق توتر درامي ما عبرها، فمطالبة الكمسري الحادة للفتاة بثمن التذكرة وملامسته كتفها بخشونة تبرز عبر ما يثار في وعي بطلة الحكاية، «فؤادة»، شعور الأنثى بضغوطات كثيرة تلاحقها في المجتمع، كما في ضغط «الكمسري»، مُحصِّل التذاكر، على كتفها وحدَّته في مطالبته لها بثمن التذكرة، وسط زحام الركاب في الحافلة، أما في التقاط أذني الفتاة كلمتي (ذمة وضمير) من كلام مُحصِّل التذاكر، في مقابل التفات أعين الركاب إليها بنظرة غريبة نحوها، فيبرز الطبيعة السلبية للجماعة بالشعور المضمَّر بإدانة ما، والتهرُّب من هذه التهمة ونفيها بمحاولة تثبيتها على الآخر/ الفتاة، فيبدو سرد نوال السعداوي مشوبًا بتحليل نفسي للمواقف والحركات مهما بلغت درجة بساطتها.
وعلى الرغم مما تحمله كتابات نوال السعداوي من إدانة كبيرة لما تراه من ذكورية المجتمع وموقفه غير العادل من المرأة، فإنَّ الخطابات السردية لدى السعداوي لا يفوتها أن تحمل نوعًا من الإدانة للمرأة نفسها بارتضائها الغبن، وسكوتها عن المطالبة بحقوقها، فتنتقد السعداوي العقل النسوي الذي يعيد إنتاج قهر المرأة بالتسليم للأفكار الذكورية التي تسلب المرأة حقوقها.
في رواية جنات وإبليس تبدو «السراي» التي كانت مكانًا لمجموعات من المهمَّشين ترجع إلى فترة متقدمة من القرن العشرين مسرحًا لممارسة نوع من القهر على هؤلاء المهمَّشين من الرجال والنساء، لكن القهر كان مضاعفًا على المرأة:
من وراء حاجز الحريم اتسعت عيون النساء، لأول مرة في حياتهن يشهدن امرأة تدخل من البوابة مرفوعة القامة، أعناقهن تشرئب بحركة أشبه بالكبرياء، كالعدوى، كبرياء واحدة من جنسهن تكفي لنشر المرض. تفك امرأة ذراعيها من حول صدرها وتنهض واقفة، تطلّ عليها من بعيد بفم مفتوح، تفلت منها ضحكة، تشاركها النساء الضحك المكتوم…. تنتقل عدوى الضحك إلى الرجال، ينبعث الهواء الراكد في صدورهم بصوت أعلى من صوت النساء. كان الضحك مُباحًا للرجال دون قهقهة عالية…. انطلقت صفَّارات الإنذار في الجو. أطلَّ المدير برأسه من مكتبه العلويّ. ظهرت رئيسة الحكيمات برأسها بالطرحة البيضاء من خلفها فرقة من التمورجية يمسك كلٌّ منهم عصا من الخيزران:
-كله يدخل العنابر! كله يدخل جوّه! (جنات وإبليس، ص ص 8-9).
يبدو مشهد دخول امرأة مرفوعة القامة صادمًا وغريبًا بالنسبة لبقية النساء تعبيرًا عن اعتيادهن القهر والانكسار، كذلك يبدو على الجهة المقابلة قهر الرجال بالتوازي مع قهر النساء وإن كان هامش الحرية المتاح لهؤلاء الرجال من المهمَّشين أوسع قليلًا من النساء اللاتي يمنعن تمامًا من الضحك في حين سمح به للرجال بصوت خفيض. غير أنَّ ثمة شخصيات نسائية في روايات السعداوي، كالحكيمة والرئيسة في هذه الرواية تبدو تمثيلًا لقهر الأنثى لغيرها من الإناث في إعادة تدوير للقهر الذكوري وتكريس له.
في لغة نوال السعداوي السردية تمثيل شعري لبعض الحالات والمواقف كما في تصوير إثارة الوافدة الجديدة بقامتها المرفوعة الكبرياء لدى زميلاتها من النساء المقهورات بعدوى الكبرياء، يبدو تأثرًا بحياة الكاتبة المهنية كطبيبة، مما جعل للغتها سمتًا من الخصوصية والاختلاف.
وكما هو بادٍ، في هذا المقطع وغيره، من نصوص السعداوي الروائية والقصصية، فإنَّ ثمة ارتباطًا ما وتواشجًا ما بين الحمولات الأيديولوجية في خطابات السعداوي السردية وهيمنة الراوي العليم، بشكل مفرِط، على مقاليد الحكي مع تغليب وجهة نظر تكاد تكون قطعية عبر صوت السارد، مما يثقل كاهل السرد في بعض المواضع بالأحكام القيمية والرؤى الأيديولوجية المبثوثة عبر تضاعيف الخطاب الحكائي.
عوالِم اللاوعي
في سرد نوال السعداوي ثمة مراوحات بين عالم الواقع واليقظة وعالم الحلم، حيث ارتياد فضاء اللاوعي الذي يمثِّل منطقة المشاعر المكبوتة والرغبات المقموعة، كما حدث مع «مجيدة» بطلة رواية زينة:
حديقة كبيرة تحوِّط البيت الكبير من الطوب الأحمر، تنمو فيها الأشجار والزهور والورود، يحوطها سور حديدي تنمو فوقه شجرات الياسمين والبوجانفيليا، أو الجهنمية، بزهورها الصفراء والبيضاء والحمراء بلون دم الغزال.
يبدو المكان من الخارج جميلاً مبتهجًا، داخل المكان يقبع القبح في الأركان، يتخفَّى الكُره تحت المفارش الحريرية المشغولة بخيوط ملوَّنة زاهية.
….في أحلامها ترى مجيدة نفسها تحلِّق في السماء مثل العصافير، لم يعد لها جسم مملوء باللحم الثقيل، ذراعاها تتحركان في الهواء بقوة وسرعة، جناحان كبيران يخفقان يرفرفان، ينعكس عليهما ضوء الشمس وضوء القمر بلون ملائكي أبيض، أصابعها لم تعد قصيرة سمينة طرية، أصبحت مثل زينة بنت زينات، طويلة نحيفة صلبة، تجري فوق أصابع البيانو جريانًا أسرع من موجات الضوء، تمسكها أبلة مريم في حصة الموسيقى، ترفعها إلى أعلى لتراها البنات كلُّهن، تقول بصوت عالٍ يصل إلى جميع الآذان، بما فيها آذان أبيها وأمها وعمها وجدّها والجيران في جاردن سيتي، والبوابين الجالسين أمام العمارات، والحلاق في الميدان، يسمّونه الكوافير، والشوفير الذي يقود السيارة، و(دادا) التي تحكي لها قصة سندريلا قبل أن تنام.
-أصابعها خُلقت للموسيقى، مجيدة بنت موهوبة ليس لها مثيل بين البنات. (زينة، دار الساقي، بيروت، 2009، ص ص 32- 33).
كما يتبدى في سرد نوال السعداوي أنَّ ثمة إبرازًا ما لتناقضات شعورية في تمثل الذات للواقع، فالطفلة الأرستقراطية، «مجيدة» كانت تحس بمثل هذا التناقض بين ما يبدو عليه بيتها من الخارج من مظاهر الجمال والتزيُّن والبهجة، وما ينطوي عليه داخله من تعاسة وقبح نفسي، ما يكشف عن زيف حاد في المظاهر الخارجية للعناصر والأشياء.
كذلك ثمة انتقالات عبر وعي بعض شخصيات الحكاية في سرد السعداوي إلى عوالم الحلم، حيث تجليات نشاط اللاوعي الذي هو مخزن الأحلام والرغبات الدفينة وكذلك المخاوف المكبوتة، فالذات، في هذا الحلم، تتخلص من مظهرها البدني الذي كانت لا ترغبه، «البدانة»، فتصبح في الحلم على النقيض من الواقع، كذلك فإنَّ في الحلم مجالًا لتجاوز منطق الواقع وكسر قوانين الطبيعة، كما في تحليق «مجيدة» وطيرانها، في إشارة لرغبة الذات في التحرُّر وعدم الارتباط بقيود أرضية. وإذا كانت شخصية «زينة»، الطفلة التي تزامل «مجيدة» في المدرسة، في الواقع تمثيلًا للفتاة المُهمَّشة التي تحظى برغم ظروفها البائسة بتقدير وإعجاب مدرسة الموسيقى لإتقانها العزف على البيانو وكذلك لنحافتها الجسدية، فإنَّ «مجيدة» في الحلم تريد أن تسطو على مكانة زميلتها وتحظى بالتقدير الذي تستحوز عليه من مدرسة الموسيقى، في تجسيد لصراع نفسي دفين يُداخل الذات حول تحقُّقها، ما يضفي على سرد نوال السعدواي أعماقًا نفسية في بنية التكوين الحكائي بجلاء الأغوار النفسية للشخصيات.